إغناطيوس دي لويولا وقِيامة يسوع المسيح

resurection

الأب فاضل سيداروس اليسوعيّ

"أعتبر كيف أنّ اللاهوت يحتجب، أي كيف أنّه يقدر أن يسحق أعداءه ولا يفعل 
وكيف يدع الناسوت المُقدّس يحتمل عذاب تِلك الشراسة القُصوى. 
أعتبر كيف أنّه يحتمل عذاب كُلِّ ذلك من أجل خطاياي، إلخ 
وما عليّ أنا أن أعمله وأحتمله من عذاب لأجله" (ر ر 196 و197).
"بعد موت المسيح على الصليب، بقي جسده مُنفصلاً عن نفسه من غير أن ينفصل عن اللاهوت. 
وانحدرت نفسه المغبوطة إلى مثوى الأموات، وهي أيضًا مُتّحدة باللاهوت، وأخرج منه نُفوس الأبرار. 
ثُمّ عاد إلى القبر وقام منه، وتراءى بالجسد والنفس لأُمِّه المُباركة" (ر ر 219).

شخصيّة يسوع المسيح القائم

كيف نفهم هذه المُفارقة (Paradoxe): في الأُسبوع 3، احتجبت أُلوهيّتُه في إنسانيّته / في الأُسبوع 4، تجلّت أُلوهيّته واحتُجبت إنسانيّته؟ 

  •      ألقاب المسيح تُعبِّر عن مفاعيل قِيامته: الخالق والفادي والربّ؛ ومِثل المُعزِّي مع أصدقائه؛ ومانح الفرح والابتهاج والسعادة والمجد؛ وداعيًا إلى الاتِّزان والقناعة والاعتدال / أكثر من مُمارسات التوبة السابقة.
  •     احتجاب إنسانيّته لا يُلغي حُضوره للبشر ولا عمله لهم، فإن انفصل جسده عن نفسه (ما يحدث في الموت)، إلاّ أنّ جسده لم ينفصل عن أُلوهيّته:  

+ ذلك يقترب من صلاة القُدّاس الباسيليِّ القِبطيِّ قبل التناول: 
"نُؤمن بأنّ لاهوته لم يُفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عيْن". 
أفلا يُمكننا إضافة هذا الاعتراف الإيمانيِّ المُكمِّل: 
"نُؤمن بأنّ ناسوته لم يُفارق لاهوته لحظة واحدة ولا طرْفة عيْن"؟

+ ذلك ما عبّر عنه الخِطابُ اللاهوتيُّ الرُّوحيُّ الغربيُّ بعِبارته الشهيرة عبر الأجيال: Deus absconditus  ("الإله المُحتجَب") التي تتضمّن – ضِمن مضامين كثيرة – صمتَه بسبب موْته / كلامه حتّى لمّا صمت بموته (سُورين كِيرْكُوكَارد): 

- "صمت التسامي [الإلهيّ]" (Silence de transcendance) الذي يدفع الإنسان إلى احترام الله وتسبيحه وتكريمه وخِدمته (ر ر المبدأ والأساس).
- "الصمت التربويّ [الإلهيّ]" (Silence pédagogique) حتّى يبحث عنه الإنسانُ بحثًا مُستمرًّا يزداد عُمقًا وتذوُّقًا، ويتعلّق به "تعلُّقًا مُنظّمًا" (Attachement ordonné: ر ر 21) لا يستحوذ عليه، كما وضّحه أُوغسطينس: 
"أنتَ [يا ربّ] تبحث عن الذي يهرب منك، وتهرب مِمّن يبحث عنك".
"إن كُنتَ [أيُّها القارئ] فهمتَ [الله]، فليس هُو الله".

  كيف ذلك؟

  1. احتجاب الله غير وارد اعتياديًّا عِند إغناطيوس (ما عدا ما ذُكر):
  • مِن هُنا مقولته الشهيرة التي تُعبِّر عن مُجمل رُوحانيّته بنظرة مُميّزة إلى الله:

"بحْث [الإنسان] عن الله واكتشافه في كُلِّ شيء" 
.(Chercher et trouver Dieu en toutes choses)  

  • وكذلك مقولة هيرونيمُس نادال، العقل المُفكِّر في الرهبانيّة:  

"مُشاهدة [الإنسانِ] اللهَ في العمل" (Contemplatif dans l'action). 

  • وأيضًا، اعتبار إغناطيوس الإنسانَ في "حضرة الله"، كما اختبره في الرُّؤيا التصوُّفيّة أمام نهر الكارْدُونِير (Le Cardoner)، لمّا فتح اللهُ ذِهنَه، بنُور ساطع، في مجال الإيمان والآداب عامّةً والبشريّة خاصّةً، حتّى إنّ كُلّ شيء ظهر له جديدًا، وفاق عُمقًا وسُموًّا كُلَّ ما تَعلّمه في الكُتب والدِّراسة (ذ ش 30). ولقد أثّرت فيه هذه الرُّؤيا، مدى الحياة، حتّى إنّ رِفاقه الأوّلين رجّحوا أنّها فحوى الرِّياضات الرُّوحيّة ونواة الرهبانيّة. 
  •  ولم يختبر إغناطيوس "ليْل النفس" (Nuit de l'âme) ولا سائر الليالي الرُّوحيّة التي اختبرها يُوحنّا الصليب الكرمليُّ على سبيل المِثال. غير أنّ "الانقباض" (Désolation)، المُتواتر ذِكره في الرُّوحانيّة الإغناطيّة، أقرب ما يكون من اختبار التصوُّف الكرمليِّ، وهو مقرون دائمًا بذِكر "الانبساط" (Consolation)، بحيث أصبح ذلك ’الثُّنائيُّ‘ (Dualité) سِمة أساسيّة من سِمات الرُّوحانيّة الإغناطيّة (ر ر 313-336). فضلاً عن أنّه يتطلّب ’جِهادًا رُوحيًّا‘ (Combat spirituel) كما وصفه بولس (أف 6/10-20)، في حين أنّ حالات "ليالي" يوحنّا الصليب تُركِّز على أنّه ’مفعول به‘ (Passif) كاختبار بولس (2 قور 12) / أكثر مِمّا تُركِّز على أنّه ’فاعل‘ (Actif). 

     2- ’الاختيار‘ يندرج في موت / قِيامة يسوع المسيح: 
 "معي في الكدّ" / "معي في المجد" (ر ر 95) Avec moi dans la peine/dans la gloire. 

  • إنّ الرُّوحانيّة الإغناطيّة المسيحانيّة (Christologique) والمسيحاويّة (Christique = بنبْرة تصوُّفيّة) السائدة هي: "معي" (Mecum) / أكثر منها "فيّ" (In me)، أو في "المعرفة الباطنيّة" (Connaissance intérieure). 
  • فالاختيار الإغناطيُّ اتِّحاد تصوُّفيٌّ بقدر ما تتّحد المشيئتان: المشيئة الإلهيّة والإرادة البشريّة. ذلك ما اختبره يسوع في صِراعه بين مشيئته ومشيئة الآب (في بُستان الزيتون، بحسب الأناجيل الإزائيّة)، وكذلك وهو مُعلّق على الصليب الذي أصبح رمز المجد والاتِّحاد بينهما (بحسب إنجيل يوحنّا). عِلمًا أنّ إغناطيوس لم يستخدم عِبارات ’الاتِّحاد العُرسيِّ‘ كسائر المُتصوِّفين، ولا الاتِّحاد العائليِّ والأخويِّ كسائر الرهبانيّات، بل ’الاتِّحاد العمليِّ‘ بقدر ما تتّسم رُوحانيّته الصُّوفيّة بـ’التصوُّف الخدميّ‘ (Mystique du service)، و’التصوُّف الالتزاميّ‘ (Mystique de l'engagement)، و’التصوُّف العمليّ‘ (Mystique de l'action)، و"تصوُّف االرِّفقة" (Mystique du compagnonnage). وما لا شكّ فيه أنّ تِلك النزعة التصوُّفيّة تتأصّل في آفاق الآلام (بُستان الزيتون والصليب)، والحياة (مجد القِيامة وخلاص الأموات ورفع الصُّعود). من هذا المُنطلق، يُعتبر ’الاختيار‘ اشتراكًا في سِرِّ موت / قِيامة يسوع المسيح. ما يُتيح لنا أن نكتشف ملامح من الرُّوحانيّة الإغناطيّة المبنيّة على ذلك السِّرّ، وكذلك على ماسبق أن اكتشفناه من سِرِّ ’المعيّة‘:  

- المعيّة الإغناطيّة ’زمنيّة‘ (مسيرة الأسابيع الأربعة) / أكثر منها ’مكانيّة‘ (يُوحنّا "السُّلّميّ"، والتصوُّف الكرمليّ: "صُعود الكرمل": فوق / تحت؛ داخل ("قصر النفس") / خارج... 

- المعيّة الإغناطيّة ’انحداريّة‘ ("رُوحانيّة التجسُّد" – "جميع الخيرات وجميع الهِبات تنحدر من علُ": ر ر 237) / أكثر منها ’ارتقائيّة‘ (رُوحانيّة الصُّعود: المُشاهدة الأخيرة من ر ر، والتي ترمز إلى رِسالة يسوع المسيح التي يُكمِّلها تلاميذُه بقُدرة الباراقليط؛ هكذا جمع إغناطيوس بين الصُّعود والرِّسالة / أكثر منه بين الصُّعود والمجد، ويلي الارتقاءَ انحدارٌ آخر لِرِسالة الكنيسة ولِمجيء المسيح الثاني المجيد).

مِن النماذج البشريّة الرُّوحيّة

  •  المسيح ربُّنا يتراءي لمريم: الأُمّ وسيِّدتنا (المُشاهدة الوحيدة في مَتْن الأُسبوع الرابع).
  •  الكنيسة: "الشُّعور مع / بالكنيسة" (Sentire cum Ecclesia) – "الخُضوع لعروس المسيح ربِّنا".

الخاتمة

في ضوْء نظرة إغناطيوس الإيجابيّة المُتفائلة إلى الله والإنسان والخليقة جمعاء، والإيمان والرِّسالة والخِدمة الشاملة...، طرح بعضُ النُّقّاد هذا السُّؤال: ألا ينبغي أن يكتشف الإنسانُ الإغناطيُّ إلهًا ’مُحتجبًا‘، سِيّما في ’المعيّة‘: البحث عنه واكتشافه، ولمعرفته الباطنيّة، واتِّباعه، والاتِّحاد به...؟