خبرة الروح

experiencing the holy spirit

الأب/ جاك ماسون اليسوعي

 

 مقدمة

فقال لهم: "هل نلتم الروح القدس عندما آمنتم؟" فقالوا له: "لا! بل لم نسمع أن هناك روح قدس!" (أعمال 19/2)

أكاد أجزم بأنّ الروح القدس هو أول خبرة لنا بالله، ولكنّه آخر ما نستطيع أن نميّزه بداخلنا أو نعرفه أو حتى نسمّيه.

إنها الخبرة الأولى، لأننا لا نستطيع بدون الروح القدس أن نعترف بأن "يسوع ربّ" (1 كو 12/3)، إنها الخبرة الأولى لأنه هو الذي يتحدث في قلوبنا وإلى ضمائرنا. إنها الخبرة الأولى لأنه يسكن ويعمل في كل إنسان.

ولكنّه آخر ما نختبره بحق لأنه الأعمق والأكثر خصوصيّة، وغالباً ما يختلط بداخلنا بصوت ضميرنا، وهو آخر ما نختبره بحق لأننا لا نستطيع أن نضفي عليه شكلاً أو وجهاً.

إن الروح يشبه النَفَس الذي يسكننا: إنه موجود بداخلنا منذ ميلادنا: "لأنه سيكون عظيماً أمام الرب. ولن يشرب خمراً ولا مسكراً، ويمتلئ من الروح القدس وهو في بطن أمه" (لو 1/15)، ولكنه غائر العمق حتى أنّنا لا نميّز إن كان هو نحن أم آخر! لقد كان القدماء يعتبرونه مصدر الحياة، فإذا مات الإنسان "ترجع الروح إلى الله الذي أعطاها" (جامعة 12/7)، ولهذا السبب كُتب في سفر التكوين في وصف خلق الإنسان من الطين أن الله "جبل الرب الإله الإنسان تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار الإنسان نفساً حيّة" (تكوين 2/7)، كما يرنّم كاتب المزمور: "ترسل روحك فيخلقون وتجدد وجه الأرض" (مز 104/30).

وليس من قبيل المصادفة أن لفظتي ريح وروح لهما مصدر واحد في العربيّة، بل كلمة واحدة تعبّر عن المعنيين في اليونانيّة والعبريّة.

(1) الروح القدس في العهد القديم

"فلم يكن هناك بعد من روح، لأن يسوع لم يكن قد مُجّد" (يو 7/29).

كيف يُمكن للقديس يوحنا أن يكتب هذا الكلام بينما ذُكر الروح القدس في العهد القديم؟! وكما نقول في قانون الإيمان: "نؤمن بالروح القدس الناطق في الأنبياء".

ونجد في العهد القديم: "روح يهوة" أو "روح الله". ويقول الرب: "روحي" وحتى إن ندر ورود تعبير "الروح القدس"، فلقد ذكر أربع مرات في العهد القديم: في أشعياء 63/10 – 11، مزمور 51/11، حكمة 1/5 و 9/17.

في أقدم أسفار العهد القديم، ترد الإشارة إلى روح الله الذي يأتي ويحل على فرد أو على جماعة ويستولي عليهم كما يستولي على الأنبياء فيشرعوا في النبوة، إنه "يفيض" (أشعيا 32/15)، و"يملأ" (حكمة 1/7)، و"يُحيي" (حز 37/6)، إن الروح هو الذي يجعل الأنبياء يتكلّمون "ووقع علىّ روح الرب وقال لي: "قل: هكذا قال الرب""، ويشبه الحكمة الإلهية عندما يصبح حضوراً دائماً ومستمراً مرتبطاً بشعب أو بشخص مختار من الله (أشعياء 11/1 – 2، أمثال 1/23، مز 51/8 و 13، حكمة 1/6، 7،7 و 22، 9/17).

ولكن الروح القدس في النصوص الأحدث في العهد القديم، هو وعد سيتحقق في ملء الأزمنة، أزمنة الخليقة الجديدة التي يقطع الله معها عهداً جديداً (أشعياء 59/21، حزقيال 11/19، أرميا 31/33)

ويتفق نص القديس يوحنا مع هذا المعنى الجديد حين يكتب "لأن الروح القدس لم يكن قد أعطي بعد"، وكذلك القديس لوقا في أعمال الرسل عندما يستشهد بنبوءة يوئيل: "يقول الله في الأيام الأخيرة سأسكب روحي على جميع البشر... في تلك الأيام أفيض من روحي على عبيدي كلّهم، رجالاً ونساء فيتنبأون" (أعمال الرسل 2/17 – 18، يوئيل 3/1 – 5)

ولكن من هو الروح القدس؟ وكيف نتصور روح الله؟

عندما يتحدث الكتاب المقدس عن "الروح"، فإنه يقصد أحياناً ما يحرّك الإنسان داخلياً: "فانتعشت روح يعقوب أبيهم" (تكوين 45/27)، وأحياناً ما يبقى حيّاً من الكائن بعد موته: "ظنّوا أنهم يرون روحاً" (لوقا 24/37)، وأحياناً أخرى القدرة والقوة التي يرسلها الله للإنسان: "فانقضّ على شمشون روح الرب" (قضاة 14/6)، وسواء كان المعنى روح الإنسان أو روح المتوفي أو روح الله، فاللفظة واحدة.

هذا بالإضافة إلى أن الكتاب المقدس، يتحدث عن أرواح شريرة، فهو يذكر أن الله أرسل روحاً رديئاً على شاول: "وفارق روح الرب شاول، وروّعه روح شرير من لدن الرب" (صموئيل الأول 16/14)، وتطلق عليها الأناجيل أرواحاً نجسة "وكان في مجمعهم رجل فيه روح نجس" (مرقس 1/23).

ولذلك سوف يدعى روح الله "الروح القدس" خلافاً للأرواح النجسة: "أين الذي جعل في داخله روحه القدوس" (أشعياء 63/11). ويتحدث الله عن نفسه قائلاً: "روحي" (حزقيال 39/29)، ولكن كما رأينا، يظل تعبير "الروح القدس" نادراً في العهد القديم ولا يصبح مألوفاً إلا في العهد الجديد.

ولكن هل لروح الله هويّة خاصة في العهد القديم؟ أيمكننا أن نعتبره، كما هو الحال في العهد الجديد، أقنوماً مختلفاً عن الله الآب؟

فهذه هي القضية التي اختلف فيها المتخصصون. فعندما يعلن الإنسان أن روحه مشوشة فلماذا يفصل إذاً بينه وبين روحه؟ هل هناك وحدة أم ازدواجية في الإنسان ذاته؟

إن المسيح يفرق بين الروح والجسد: "الروح مندفع، وأما الجسد فضعيف" (مرقس 14/38)، ويصرح لنا القديس بولس أن هناك حرب بين الاثنين "لأن الجسد يشتهي ما يخالف الروح، والروح يشتهي ما يخالف الجسد: كلاهما يقاوم الآخر حتى إنكم تعملون ما لا تريدون" (غلاطية 5/17).

لا مجال للاستفاضة في هذه القضية فحتى لو فرقنا بين الاثنين فهناك وحدة بينهما، أو ليس هو الحال أيضاً بالنسبة لله؟

على كل، فيكفي أننا نستطيع أن نقول إن العهد القديم اختبر روح الله، وحين يعرّف يسوع خبرة الروح أو يتكلم عنه، فسيؤسس ذلك على تراث العهد القديم.

وعلينا أن نفسّر خبرة يسوع وتجربته من خلال ما ذُكر عن الروح القدس في العهد القديم.

(2) يسوع وخبرة الروح

لقد كانت خبرة يسوع الأساسية بالروح وقت اعتماده في نهر الأردن: "وبينما هو خارج من الماء رأى السماوات تنشق، والروح ينزل عليه كأنه حمامة. وانطلق صوت من السماوات يقول: "أنت ابني الحبيب، عنك رضيت" (مرقس 1/1 – 11). ولأننا اعتدنا هذه النصوص فإننا لا نعي إلى أي مدى كان ليسوع في هذه الخبرة تجربة روحية قوية وملموسة.

إن نزول الروح على يسوع يتشابه نوعاً ما مع ما اختبره الأنبياء عند تكليفهم برسالة أو عند إبلاغهم بكلمة الله التي عليهم أن يبلغوها بدورهم.
ومع ذلك فقد رأى الروح ينزل عليه على شكل حمامة، وتأخذنا هذه المقارنة إلى حمامة سفينة نوح التي كانت علامة على نهاية الطوفان، والتي أصبحت إلى يومنا هذا رمز السلام عند جميع الأمم.

وهذا يعني أن يسوع عند اعتماده شعر بأنه قد وُلي رسالة إعلان كلمة الله، وشعر أيضاً أن رسالته هي رسالة سلام.

هناك أخيراً، كلمة الآب التي صاحبت رؤية يسوع والتي تذكر بنص المزمور: "قال لي أنت ابني أنا اليوم ولدتك (مزمور 2/7 - مزمور التنصيب الملكي المشيحي).

إن خبرة يسوع هذه مع الروح لا تبلغه بأنه نبي فحسب، ولا حتى بأنه نبي يحمل رسالة سلام فحسب، بل تبلغه أيضاً بأنه ملك مسيح وابن الله. ولن ينفك يسوع من بعد هذه الخبرة من الحديث عن الله كأبيه، ألم يكتشف يسوع بواسطة الروح هويّته كابن الله؟

على كل حال، فقد حدد الرسل اعتماد يسوع بداية لرسالته: "في شأن يسوع الناصري كيف أن الله مسحه بالروح القدس والقدرة، فمضى من مكان إلى آخر يعمل الخير ويبرئ جميع الذين استولى عليهم إبليس، لأن الله كان معه" (أع 10/38).

أمّا بعد ذلك وأثناء رسالة يسوع، فنادرة هي النصوص التي نوهت عن علاقة يسوع بروح أبيه. ولكنّها بالرغم من ذلك نصوص تستحق التأمل والفحص، لأنها تبين لنا شيئاً عن هذه العلاقة.

  • "فلا يهمّكم حين يسلمونكم كيف تتكلّمون أو ماذا تقولون، فسيُلقى إليكم في تلك الساعة ما تتكلمون به، فلستم أنتم المتكلّمين، بل روح أبيكم يتكلّم بلسانكم" (متى 10/19 – 20). عبارات يسوع هذه لتلاميذه تكشف لنا – بشكل غير مباشر – خبرة يسوع الشخصيّة، وهي تتفق إلى حدٍ ما وما قاله يسوع في إنجيل القديس يوحنا: "إن الكلام الذي أقوله لكم لا أقوله من عندي بل الآب المقيم فيّ يعمل أعمالاً" (يو 14/10). "روح أبيكم": "الآب المقيم فيّ"، ويكتب القديس لوقا أيضاً: "رجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل... وكان يعلّم" (لو4/14 – 15).
  • وكما أن يسوع يدرك إدراكاً تاماً أن الروح هو الذي يتحدّث بداخله، فهو يدرك بالقدر نفسه أن الروح أيضاً هو الذي يعمل بداخله. روح الآب الذي بداخله "يعمل أعماله" (يو 14/10). ويقول: "وأما إذا كنت أنا بروح الله أطرد الشياطين، فقد وافاكم ملكوت الله" (متى 12/28).
  • وإذا كان وجود روح الآب بداخل يسوع هو الذي يجعله يتكلّم ويعمل فهو أيضاً الذي يجعله يتهلّل: "تهلّل يسوع بالروح وقال: "أحمدك أيها الآب..." (لو 10/21). إن هذا النص يشبه نص زيارة العذراء لأليصابات حيث امتلأت من الروح القدس: "فهتفت بأعلى صوتها: مباركة أنت في النساء! ومباركة ثمرة بطنك!" (لو 1/41 – 42)، بينما "ارتكض الجنين ابتهاجاً في بطنها" (لو 1/44) وقالت مريم أيضاً: "تعظّم الرب نفسي وتبتهج روحي بالله مخلصي" (لو 1/46). إن الروح القدس مصدر فرح وابتهاج وتسبيح. وأقر تلميذا عمواس أيضاً: "أما كان قلبنا متقداً في صدرنا، حين كان يحدثنا في الطريق ويشرح لنا الكتب؟" (لو 24/32)
  • يعي يسوع بأنه ممتلئ من الروح القدس المقيم به: "وفي آخر يوم من العيد، وهو أعظم أيامه، وقف يسوع ورفع صوته وقال: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ومن آمن بي فليشرب كما ورد في الكتاب: "ستجري من جوفه أنهار من الماء الحي". وأراد بقوله الروح الذي سيناله المؤمنون به" (يو 7/37 – 39)، إنه "الماء الحي" الذي عرض على المرأة السامرية أن يسقيها منه. (يو 4/3).
  • إن الروح القدس، الذي امتلأ منه يسوع، اختبره يسوع كروح أبيه. أثناء اعتماد يسوع، كان الروح الذي "أفاض" عليه بالفعل مصحوباً بصوت الآب. يأتي من الآب وينصب يسوع ابناً ولذلك قال يسوع: "ومتى جاء المؤيّد الذي أرسله إليكم من لدن الآب روح الحق المنبثق من الآب" (يو 15/26)، كما أعلن أن الآب سيهبه للعالم: "وأنا سأسأل الآب فيهب لكم مؤيّداً آخر يكون معكم للأبد" (يو 14/16). 

ولكن في الوقت نفسه، يدرك يسوع أنه أيضاً صاحب هذا الروح، بل وأعلن أنه سيرسل هذا الروح القدس بنفسه: "ومتى جاء المؤيّد الذي أرسله إليكم من لدن الآب" (يو 15/26) ، بل يذهب إلى أبعد من ذلك عندما يضيف أن هذا الروح نفسه: "سيمجّدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم به" (يو 16/14). ومن هنا أكد أن روح الله هذا هو روحه وشرط بالفعل: "كل ما هو للآب فهو لي ولذلك قلت لكم أن ما سيحدثكم به صادر عني" (يو 16/15).

والنص السابق يعلن لنا إعلاناً عميقاً الخبرة التي يسوع اختبرها لاتحاده الباطني بأبيه، فهما يتحدان بروحهما.

ولأن يسوع يتحد اتحاداً كاملاً بأبيه، يتحد به حتى أنه يشعر بأنهما واحد، وبأن روحه وروح أبيه ليسا إلا روحاً واحداً. إنه روح واحد يسكن كليهما، إن إرادة الآب هي نفسها إرادة الابن، إن شعور الآب هو نفسه شعور الابن، بينهما وحدة الروح.

(3) خبرتنا بالروح

هل يمكن أن يكون لنا نحن أيضاً خبرة بالروح مماثلة لخبرة يسوع هذه؟ خبرة اتحاده بالآب في الروح ولو على سبيل التشبيه؟

خبرة الرسل:

فلنلاحظ أولاً أن الرسل والتلاميذ قد عاشوا فعلاً خبرة هذا الروح. لقد أشرنا في ما سبق إلى "القلب المتقد" لتلميذي عماوس (لو 24/32) وقد امتلأ القديس اسطفانوس من الروح القدس، فرأى مجد الله. وقال: "ها إني أرى السماوات منفتحة، وابن الإنسان قائماً عن يمين الله" (أع 7/55 – 56)، ولأنهم: "امتلأوا جميعاً من الروح القدس، فأخذوا يعلنون كلمة الله بجرأة" (أع 4/31).

وكذلك تحت تأثير الروح "أفردوا برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه" (أع 13/2). وكتب بولس إلى مسيحيّي كورنثوس: "وأنا أيضاً، لما أتيتكم، أيها الإخوة... لم يعتمد كلامي وتبشيري على أسلوب الإقناع بالحكمة، بل على أدلة الروح والقوة" (1 كو 2/1 – 4).

وعندما اجتمع الرسل في أورشليم، واتخذوا قراراً ستلتزم به الكنيسة كلها كتبوا: "فقد حسن لدي الروح القدس ولدينا..." (أع 15/28).

"وتتضافر التعبيرات: قلب متقد، رؤية روحية، ثقة وجرأة للتعليم، تمييز من أجل الانطلاق في رسالة، خبرة بقدرة الروح، قرار جماعي... لقد اختبر الرسل الروح في كل هذا.

إن الروح القدس – عند الرسل – هو مؤسس الكنيسة، وهو كذلك الرابطة التي أدّت إلى وحدتها، لأننا "شربنا من روح واحد" (1 كو 12/13).

فلعلّنا نتأمل ونتعمق في جميع خبرات الروح القدس هذه في زمن الرسل. فلنفكر خاصة في كل ما كتبه القديس بولس لأهل كورنثوس في موضوع مواهب الروح: مواهب التكلم بالألسنة وشفاء الأمراض وعمل المعجزات والنبوءة والتمييز بين الأرواح وأعظمها موهبة المحبة (1 كو 12) فبعد زمن يسوع، اختبرت الكنيسة الناشئة خبرة حقيقية، وهي زمن الروح.

وأنا؟

ليس لي موهبة التكلّم بالألسنة وترجمتها، أو موهبة الشفاء أو موهبة عمل المعجزات! ولكن كل ما يمكن أن أقول هو أنني، شأني كشأن أي مسيحي سبق له أن صلّي، عندي خبرة التعزيات الروحية، هذا "القلب المتقد"، هذا الورع وهذه اللذات الروحية التي لا يمكننا أبداً أن نهبها لأنفسنا مهما فعلنا.

لقد تعلّمت، عن معلمِيَّ ومرشدِيَّ الروحيين، كيف أميّز بين ما هو من عند الله وما هو من الشرير. ما هو من عند الله، يتفق وتعاليم الكتاب المقدس والكنيسة، يعطي سلام القلب، ويكون مصحوباً بشعور من الرضا. أما ما يترك الإنسان في اضطراب وخوف وقلق ويوشك أن يبعده عن الكتاب المقدس والكنيسة، فذلك ليس من عند الله.

لقد تعلمت بالإيمان أنني "بدون الله، لا أستطيع شيئاً" إذاً عندما "أعمل" عملاً حسناً، فمن لدنه أتسلمه وأقوم به.

لقد تعلّمت، عندما أتخذ قراراً، أن أستودعه بين يدي الله حتى أعيده إليه فيكون قراري "قراره" هو في سبيل "الولادة من فوق" (يو 3/7). لأنه طالما أنا الذي أريد وأنا الذي أقرر، ستظل قيادة حياتي بين يدي وحدي، وسأظل "من الأرض"، ولكن عندما لا أستطيع أن أريد إلا ما يريده هو لي، وعندما أقدم له قراراتي كيما تصبح مشيئته، وكيما يفعل بها ما يريد، عندئذ فقط أسلم له قيادة حياتي، وأكون قادراً ومستعداً للولادة من فوق. وهذا ثمر الروح.

إنني إذاً أتخلى عن ملكيتي لنفسي كي لا أسلّم ذاتي إلا لله أبي في وحدة روحي بروحه.

تعلّمت على خطى القديس بولس، ثمار الروح "المحبة والفرح والسلام، وطول البال واللطف والصلاح والأمانة والوداعة وضبط النفس" (غلا 5/22)، وعرفت إلى أي مدى "المحبة تصبر، المحبة تخدم، ولا تحسد ولا تتباهي ولا تنتفخ من الكبرياء ولا تفعل ما ليس بشريف ولا تسعى إلى منفعتها، ولا تحنق ولا تبالي بالسوء، ولا تفرح بالظلم، بل تفرح بالحق، وهي تعذر كل شيء وتصدق كل شيء وترجو كل شيء وتتحمل كل شيء" (1 كو 13/ 4 – 7). وإن ابتعدت عن ثمار الروح هذه، فإنني على الأقل أعرفها، بل وأتعرّف عليها أحياناً كهبة من عند الله.

لقد تعلّمت أخيراً أن إيماني لا يمكن له أن يُولد بداخلي إلا من خلال نعمة ونور الروح القدس. كما تعلّمت أيضاً أنني لا أستطيع أن أهب نفسي الإيمان أو خبرة الروح. فكل شيء إنما هو هبة من الله 

وهنا يمكن أن يظهر سؤال:

هل بإمكاننا أن نختبر الله أو روحه بطريقة محسوسة؟ وهذا السؤال سؤال حقيقي لأنها الرغبة الدفينة الملازمة لقلب كلّ إنسان يبحث عن الله. ولأننا نختبر التأثيرات الإيمانية من تعزيات أو أحزان، من سلام أو فرح أو اضطراب أو خوف إلخ... وذلك على مستوى الضمير أو الشعور أو الوجدان فكل منا يستطيع أن يطرح على نفسه هذا السؤال: "من الذي يتحدث بداخلي؟ أهو صوتي؟ أم إنها خبرة روح الله مباشرة ومحسوسة؟ من ذا الذي يعزيني أهو الله أم هذا تأثير من صلاتي؟ الرؤى نفسها التي يعتقد بعض الناس التمتع بها، هل هي رؤية حقيقية أم أوهام وهذيان؟ كيف نحكم على هذا كلّه؟ إن الرغبة في الإحساس بالله هي تجربة كبيرة.

إنها تجربة، لأنه إن كانت حياة الإيمان وكأننا "نرى اليوم في مرآة رؤية ملتبسة (1كو 13/12) فإن النفس المُحبة تتنهد قائلة "متى أجئ وأتراءى قدام الله" (مز 42/2).

ولذا كتب القديس أوغسطينوس في اعترافاته هذه الجملة التي أحسّها من عند الله: "أوغسطينوس، أوغسطينوس، اِعلم أنه ما دمت تشعر بشيء فليس ذلك أنا"، معبّراً بذلك عن أن الإنسان لا يستطيع أن يكون له خبرة محسوسة بالله، فالجسد لا يمكن أن يعرف الله. وقد قال العهد القديم لنا ذلك: "أما وجهي فلا تقدر تستطيع أن تراه لأنه لا يراني الإنسان ويحيا" (خر 23/20)

ويظل تمييز حقيقة الخبرات الروحية مسألة شديدة الصعوبة، حتى إن الكنيسة تنصح عموماً بالامتناع عن ذلك، أي علينا ألا نبحث عن قرار في صحة الخبرات الروحية. وأمام الظهورات المتعددة التي نسمع عنها، فإن كل واحد يمكنه أن يتساءل: "هل هذه رؤية حقيقية أم أوهام وهذيان؟ أما الكنيسة فنادراً ما تتفوه برأي، ولكنها تصبّ كل اهتمامها على معرفة ما إذا كانت الظاهرة المحسوسة المختبرة تؤدي إلى تطور أخلاقي معنوي وإلى التزام حياة مسيحي حقيقي لمن تأتيه الظهورات أو الرؤى. ويُعدّ هذا هو المعيار الأساسي للكنيسة لتمييز صدق الخبرة المحسوسة المعاشة، فبموجب هذا المعيار نميز صدق الخبرة الحقيقية للروح القدس. 

وهنا يكمن كل تراث الكنيسة في تمييز الأرواح كما يشير إلى ذلك القديس إغناطيوس في القاعدة الثانية: "أما مع الذين يتقدّمون تقدماً حثيثاً في تطهير نفوسهم من الخطايا ويرتقون من حسن إلى أحسن في خدمة الله ربنا، فالتصرف هو على عكس ما ورد في القاعدة الأولى. فمن شأن الروح الشرير أن يلسع ويُحزن ويضع العقبات، مثيراً القلق بدواع كاذبة، ليمنع من السير قدماً. ومن شأن الروح الصالح أن يهب الشجاعة، وأنواع القوة والانبساط، والدموع ولإلهامات والراحة، مخففاً ومذللاً جميع العقبات للسير قدماً في عمل الخير. (القديس إغناطيوس، قواعد التمييز الروحي – الرياضات الروحية رقم 315).

 خاتمة:

من خلال الروح القدس، يجد كلّ منا نفسه على اتصال مباشر مع الله الآب شأننا شأن يسوع المسيح. فلا نحتاج إلى أن نبحث عن الله في السماوات أو في الفضاء أو في كون بلا حدود، كما أننا أيضاً لا نحتاج إلى العودة إلى تاريخ قديم يرجع إلى أكثر من ألفي سنة لاكتشاف يسوع المسيح والاتحاد به. بل الدعوة هي للعودة إلى الذات، إلى داخل القلب كما يقول الكتاب المقدس، أو إلى روحه، فيختبر الحضور الحي والفعّال لروح الآب والابن.

إن هذا الحضور يحسّه القلب وكذلك الضمير، إنه هو الذي يوبُخنا ويوجهنا عندما نستسلم لضعفاتنا، وهو الذي يعزينا ويشجعنا عندما نرجع إليه. وهو كذلك الذي يلهمنا ما يجب أن نفعله حين نسعى للأمانة لإرادة الآب. إن الروح القدس هو خفقان للحياة الإلهية فينا، ولذلك بدأنا المقال قائلين إنه أول ما اختبرنا حتى قبل أن نستطيع أن نميز كلمته أو شخصيته، شأننا شأن الطفل الذي يختبر وجود أمه حتى قبل أن يدركها أو يعي بها.

من خلال الروح القدس تتحد روحنا بروح يسوع وتسعى إلى الاتحاد به أكثر وأكثر "حتى يكون فيما بيننا الشعور الذي هو أيضاً في المسيح يسوع" (فيلبي 2/5). من خلال هذا الروح، روح يسوع، يسعى كلّ مؤمني إلى عيش خبرة البنوة لله.

من خلال الروح الذي يوحّدنا بالمسيح، يمكن أن نصلّي إلى الآب ونتعرف عليه.

فعندما لا يبغي روحي إلا ما يبغيه روح الآب والابن، عندئذٍ فقط أستطيع أن أعيش خبرة الوحدة بالله الآب التي عاشها يسوع.

"لا تخمدوا الروح" (1 تسالونيكي 5/19)