الأب أوليفر برج أوليفييه
ليس أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم وأقمتكم
لتذهبوا وتأتوا بثمر ويدوم ثمركم
(يوحنا 15: 16)
كلمة "رسالة" تُعبّر جيدًا عن فكرة أننا مختارون و"مرسلون "- فرسالتنا ليست "مِلك لنا"، بمعنى أننا لم نختارها على هوانا أو على حسب ما يوافقنا ، وإنما هي خاصة بنا لأننا قد دُعينا ونحن الذين اختارهم. وتُذكّرنا المبادئ العامة "البند السابع" بأننا "تسلّمنا وسط شعب الله رسالة أن نكون شهوداً للمسيح في كلامنا وأعمالنا بين الناس. وقد تسلّمنا هذه الرسالة، بادئ ذي بدء، من المسيح نفسه الذي قال لنا: أنا الذي اخترتكم وأقمتكم لتذهبوا....، فالمبادرة دائمًا من الله، وعلينا أن نكون منتبهين وأن نلبي ندائه".
أي نوع من الرسالة؟
لقد اختارنا المسيح وأرسلنا؟ نعم، ولكن إلى أين؟ ولأي غرض؟ "لكي نكون شهودًا للمسيح وسط الناس" والكنيسة التي تتابع رسالة المسيح – تدعو المسيحيين اليوم إلى وضع أنفسهم في خدمة الإنسان، كل الإنسان والناس كلهم، ولذا أينما وُجد أعضاء رفاق الكرمة، وأيًا كان مستوى كفاءاتهم ومسئوليتهم، فهم ملتزمون بالأعمال التي تطلبها الكنيسة.
إذن يمكننا أن نقول إنه ليس لنا رسالة مخصوصة، محددة مسبقًا، تميزنا عن غيرنا، فرسالتنا هي رسالة المسيح الذي يبحث عن تجديد وتقديس كل ما هو زمني، فرسالتنا هي كل تكليف يمكن أن تطلبه الكنيسة بحسب الاحتياجات النابعة من تمييزها. ومن المهم أن نتذكر منذ البداية، أن كل رسالة مسيحية تعاش داخل الكنيسة، وهو ما نقصده حينما نقول في روحانيتنا "الشعور بما تشعر به الكنيسة".
رسالة فردية أم رسالة للجماعة؟
جماعاتنا هي مجموعات من المؤمنين يجتمعون لمشاركة حياتهم الإيمانية ولمساعدة بعضهم البعض في إعطاء معنى رسولياً للواقع – الأكثر تواضعًا – لحياتهم اليومية... وفي التمييز لما هو أكثر الحاحاً وأكثر شمولية (صفحة 17)، كما أن جماعاتنا تهدف إلى إعداد أعضائها نحو دعوة رسولية فعّالة داخل الوسط الذين يعيشون فيه بالأخص. وهذا يعني بالضرورة أن تلك الدعوة نحياها حيث نتواجد ونعيش ونعمل في الظروف العادية، نعيشها في إطار حياة كل يوم بأن نصبح بشهادتنا أدوات "للتجديد والتقديس"، فرسالتنا تحوي في داخلها كل قطاعات الحياة الأسرية والمهنية، المدينة والكنيسة... الخ.
بهذا المعنى، فدور الجماعة هو في مساعدة الافراد وخصوصًا بممارسة مراجعة الحياة، أن يعطوا معنى رسوليًا لواقع الحياة اليومية وأن يميزوا رسالتهم الخاصة، ومن هذا المنطلق أيضا تصبح دعوة الفرد هي دعوة للجماعة لأنها هي التي تميّز هذه الدعوة في الصلاة وهي التي تستقبلها ثم ترسل الأفراد.
وإذا كنا مدعوون بحق للعمل على إصلاح بنية المجتمع عن طريق المشاركة في مجهودات تحرير البشر من ضحايا كل أنواع التفرقة، فإنه من الصعب أن نؤمن بتحقيق ذلك وحدنا – أي على المستوى الفردي – فبعد تمييز حقيقي، كل جماعة محلية أو قومية، عليها أن تكتشف رسالتها الجماعية نحو تحرير "كل إنسان والإنسان كله" كما سبق أن ذكرنا، ولنا في بلاد أخرى أمثلة عديدة جديدة.
- في إيطاليا، وفى روما بالتحديد، حيث توجد مشكلة كبيرة مع اللاجئين من مختلف أرجاء المسكونة، قررت جماعات الحياة المسيحية أن تفتح مركزًا لخدمة لاجئي أثيوبيا، في هذا المركز، توفر الجماعات مكانًا لمبيت مائة أثيوبي، كما تقدم عشاءً ساخنًا لهم. وعلاوة على ذلك، دروس في الإنجليزية والفرنسية والكمبيوتر وبعض الإعداد المهني أو وظائف شاغرة المهم في هذا الأمر، هو أن هذه الخدمة تساعد اللاجئين على إتمام إجراءاتهم للإقامة في إيطاليا أو الهجرة إلى كندا. يتولى هذا العمل صيفًا شباب من جماعات الحياة المسيحية يأتون من كل أنحاء إيطاليا، فهذه الرسالة التي بدأتها إحدى الجماعات المرتبطة بأحد اديرة اليسوعيين في روما تحولت شيئًا فشيئًا لتصبح رسالة الجماعة القومية الإيطالية.
- مثال آخر من كولومبيا، حيث قررت إحدى جماعات الحياة المسيحية المكونة من مجموعات من الأطباء، أن تترك المدينة لتستقر في قرية فقيرة حيث افتتحوا عيادة تخدم القرى المجاورة أيضًا.
- أما في مقاطعة الكيبيك (كندا) طلب المؤتمر الأسقفي من جماعات الحياة المسيحية أن تهتّم بصفة خاصة بتكوين الأسر "من حيث الإعداد للحياة الزوجية والإرشاد لحل مشاكل المتزوجين وذلك بسبب العدد الكبير لحالات الطلاق بين المسيحيين.
الرسالة والصلاة
في الصلاة وبالأخص في الصلاة الشخصية، يختبر عضو رفاق الكرمة محبّة يسوع المسيح التي تمنحه الفداء وتوقظ فيه الرغبة في أن يكون مع المسيح وأن يتبعه. "فالاستجابة لحبّ المسيح يقع على مستوى حبّ وعاطفة شخصيتين وليس استجابة أعمال وكلام فقط. هي إذن استجابة الشخص بكامل كيانه وبالإيمان يكون القلب المُحبّ مستعدًا أن يتبع المسيح في فشله الظاهر والذي يخرج فجأة كنصر. (مرحلة التعمق Survey)
في الصداقة الحميمة مع المسيح وعلى طريقه – وهو ثمرة الصلاة – ينمو الحبّ الباطنيّ أو الروحيّ الذي يجعلنا قادرين أن نشعر بالنداء الذي يوجهه لنا في موقف ما بعينه. هذه المقدرة هي أهم ما يُمكِّننا من المشاركة في الرسالة، وهي مقدرة تتنامى بالقدر الذي نترك أنفسنا لنتطهر دومًا في دوافعنا، فالجذور الدفينة للأنانية تظهر جلية في ضوء محبة المسيح.
وعندما يصل كل أعضاء الجماعة إلى هذا الحس الباطنيّ، ستكتشف الجماعة اهتمامًا متزايدًا إلى قضية المسيح في هذا العالم، وهذا الاهتمام سيتجه حتمًا نحو ما يحتاجه الوسط المحيط بهذه الجماعة، فتصبح بهذه الطريقة جماعة رسولية.
وفى دستور (الفرح والرجاء) يذكرنا المجمع الفاتيكاني الثاني بأنه (يجب علينا أن نبين أن الاعتراف بالله لا يتعارض مع كرامة الإنسان بأي شكل من الأشكال. وأن الرجاء فيما هو أبعد لا يقلل من أهمية الأعمال الإنسانية ولكنه بالأحرى يعضد إتمامها على أسس ودوافع جديدة)، ولذا يجب أن نعرف أن نتكلم مع الله، عن المسيح، عن الإنجيل مما يستلزم تكوينًا كتابيًا ولاهوتيًا جادًا ويستلزم كذلك لغة تتوافق مع الناس الذين نتحدث إليهم بل أكثر من ذلك، يجب أن نعطى شهادة إيمان حي وناضج، وأن نهتم بإظهار حضور الله بالمحبة الأخوية.
أسس الاختيار والتحليل الاجتماعي
ومن أجل اختيار العمل الذي سنقوم به – أي الرسالة – كان للقديس إغناطيوس معيارًا أساسيًا (ما هو أكثر شمولية وما هو أكثر استمرارية)، واليوم هذا المعيار يعنى إعطاء اهتمام خاص بالبنية الاجتماعية. فإذا كنّا نريد ما هو أكثر شمولية وأكثر الحاحًا، يجب أن نهتّم بعمق بهذا الهيكل الذي يتغير باستمرار وكذلك، فبتطبيق معيار القديس إغناطيوس، يجب أن نعمل أيضًا لمساعدة الفئات الاجتماعية التي تعيش على أطراف المجتمع سواء من يعانون أشد الفقر أو من يمثلون فئة المعوقين.
حتى نكتشف ما هو أكثر الحاحًا، أكثر شموليّة، أكثر استمراريّة أي لكي نكتشف أولويات الرسالة، نحتاج إلى تحليلاً اجتماعيًا ونقصد بتعبير التحليل الاجتماعي، الجهد الذي نبذله لتكوين نظرة أكثر شمولية للوضع الاجتماعي القائم عن طريق فحص جذوره وعلاقاته البنيوية والتاريخية، ويستخدم هذا التحليل كأداة تمكننا أن نتفهم الواقع الذي نهتم به، فيفحصه من كل ظاهره ويصير أكثر ثراء بغناه الواقعي.
أما عن نوع التحليل الاجتماعي الذي نقترحه، فهو مؤسس على "نظرة رعوية" يمكن أن نوضحها بالشكل التالي الذي يظهر مدى عمق الارتباط بين عناصر التحليل الأربعة:
- الفكر اللاهوتي
- النشاط العملي
- التخطيط الرعوي
- الخبرة
وسنتناول هذا الموضوع بصورة مفصلة في العدد القادم
الرسالة والتعاون
وفى المجمع الفاتيكاني الثاني نجد أنه وقد أصبح من الضروري جداً في الظروف الراهنة وفى كل مكان يمارس فيه العلمانيون نشاطهم، أن يزداد العمل الرسولي نموا بشكله الجماعي والمنظم. إذ أن هذا التضافر الوثيق في الجهود هو وحده الكفيل بأن يحقق كل أهداف العمل الرسولي الحديث ويصون ثماره بصورة فعالة.
ويذكرنا الSurvey بأنه حيث إننا نفهم حياة الجماعات على أنها مشاركة في رسالة المسيح، فيجب أن تكون ... مندمجة في جسده، أي الكنيسة (المظاهر الاساسية لمرحلة التعمق) والمقصود بهذا هو الاشتراك الإيجابي في اهتمامات الكنيسة المحلية، ولذا يجب أن تكون جماعات الحياة متفاهمة ومتصلة مع الكنيسة الممثلة في السلطات الكنسية وهذا التفاهم يعنى إخلاصًا مسئولاً ولا ينفى ذلك بالطبع حدوث عدم تفاهم أو ألم (المرجع نفسه).
وحتى لا تتبعثر طاقات الجسد الذي هو الكنيسة، ولكي يصبح العمل الرسولي أكثر فاعلية، نحتاج أن نتعلم كيفية التعاون لا كجماعات حياة فحسب، وإنما أيضا مع الحركات والأنشطة والمراجع الأخرى التي تُكوّن الكنيسة، فنبتعد بذلك عن خلق روح تحزب وريبة، ونقدم للعالم شهادة تضامن ومحبة.